د.حسن نعيم إبراهيم المدير العام
عدد المساهمات : 401 تاريخ التسجيل : 28/04/2016 العمر : 68
| موضوع: كمان روتشيلد السبت مايو 14, 2016 9:56 am | |
|
كمان روتشيلد للكاتب الروسي ( أنطون تشيكوف ) كانت البلدة الصغيرة ، أسوأ من قرية ، لا يكاد يعيش فيها سوى العجائز الذين كانوا يموتون بشكل نادر إلى حد مقلق ومثير للحيرة ، وكانت الحاجة إلى التوابيت ضئيلة جداً فى المستشفى ، وحتى فى السجن . وباختصار ، فقد كانت الأمور فى غاية الإزعاج . ولو كان ياكوف إيفانوف حانوتياً فى مركز المحافظة لامتلك على الأرجح منزله الخاص ونادوه بلقب ياكوف ماتفييتش ، ولكنهم كانوا ينادونه ، هنا فى البلدة الصغيرة ، ببساطة : ياكوف . ولسبب ما كان لقبه فى الشارع "برونزا" برغم حياة الفقر والكفاف كفلاح بسيط فى بيت من بيوت الفلاحين الصغيرة الحقيرة ، حيث يقتصر على غرفة وحيدة يعيش فيها هو ومارفا ، والمدفأة وسرير يتسع لشخصين ، والتوابيت ، ومنضدة نجارة ، وباقى أدوات المعيشة . كان ياكوف يصنع توابيت جيدة ومتينة . فمن أجل الرجال وصغار الملاك كان يصنعها على مقاسه ، ولم يخطئ فى ذلك مرة واحدة إذ لم يكن هناك إنسان أطول وأقوى منه حتى فى السجن ، برغم أنه كان قد تجاوز السبعين عاماً . ومن أجل النبلاء والنساء فقد كان يصنعها بالقياس مستخدماً من أجل ذلك مقياس الأرشين ، بينما كان يقبل طلبيات توابيت الأطفال على مضض ، ويصنعها مباشرة دون قياس وباستخفاف شديد . وفى كل مرة عندما يتقاضى فيها نقوداً عن عمله ، كان يقول : أعترف ، فأنا لا أحب العمل فى هذه التفاهات . باستثناء الحرفة ، كان عزفه على الكمان أيضاً يجلب له دخلاً غير كبير . ففى حفلات الزفاف بالبلدة كان يعزف فى العادة الأوركسترا اليهودى الذى كان يقوده السمكرى موسى إليتش شخكيس الذى يأخذ لنفسه أكثر من نصف الإيراد . وبما أن ياكوف كان يجيد العزف على الكمان ، وخصوصاً بمصاحبة الأغنيات الشعبية الروسية ، فقد كان شخكيس يدعوه أحياناً للعزف فى الأوركسترا مقابل خمسين كوبيكا فى اليوم بغض النظر عن هدايا الضيوف وتبرعاتهم . وعندما كان برونزاً يجلس بين العازفين فى الأوركسترا ، فإن أول ما كان يظهر عليه هو احمرار وجهه وتصبب العرق منه ، إذ كان الجو حاراً ، ورائحة الثوم تخنق الأنفاس ، والكمان يزيق والكونترباس يشخر بجوار أذنه اليمنى ، وبجوار اليسرى ينشج الناى الذى يعزف عليه اليهودى الأصهب الهزيل ، بوجهه الذى تظلله شبكة واسعة من العروق الحمراء والزرقاء ، والذى كان يحمل لقب الثرى الشهير روتشيلد وكان هذا اليهودى اللعين يحول حتى أكثر الألحان مرحاً إلى كآبة وأنين ، وبدون أسباب واضحة كان ياكوف متشبعاً بكره واحتقار شديدين لهؤلاء اليهود ، وخاصة لروتشيلد . وقد بدأ ذلك بالمماحكة ، ثم التجريح بالشتائم البذئية ، لدرجة أنه أراد ذات مرة أن يضربه . بينما تأذى روتشيلد من ذلك ، وقال من بين أسنانه ناظراً في حنق : لو لم أكن أحترمكم لموهبتكم ، لطرتم من النافذة منذ زمن بعيد . ثم بكى . ولذا فقلما كانوا يستعينون ببرونزا فى الأوركسترا ، وكان ذلك يحدث فقط فى حالات الضرورة القصوى عندما يتغيب أحد من اليهود . كان ياكوف فى مزاج سيئ باستمرار لأنه كان يتعين عليه دائماً أن يصبر على الخسائر الفادحة . وعلى سبيل المثال ، ففى أيام الآحاد وفى الأعياد كان من الإثم أن يعمل ، ويوم الاثنين يوم صعب . وبهذا الشكل يكون المجموع حوالى مائتي يوم يتعين عليه فيها أن يجلس ، خلافاً لإرادته ، عاطلاً عن العمل ، بينما فى ذلك خسارة ، وأية خسارة ! إذا أقام أحد ما فى البلدة عرساً بدون موسيقى ، وكانت خسارة أيضاً إذا لم يدعُ شخكيس ياكوف . ولقد ظل رجل البوليس المراقب بالسجن مريضاً يعطس طوال عامين كاملين . وانتظر ياكوف بفارغ الصبر متى يموت ، ولكن المراقب سافر إلى المركز للعلاج ، ومات هناك . وكم كانت الخسارة إذ ضاعت على الأقل عشر روبلات ، لأن الأمر اقتضى أن يصنع التابوت على نحو آخر مستخدماً نوعاً خاصاً من القماش لتزيينه . وراحت الأفكار حول الخسائر والانتكاسات تضني ياكوف وتعذبه ، خاصة فى الليل . ولذا فقد وضع الكمان إلى جوار الفراش ، وكلما وردت على ذهنه تُرهة ما ، كان يمس الأوتار فيصدر الكمان فى الظلام صوتاً يهدئ من روعه . وفى السادس من مايو فى العام الماضى توعكت مارفا فجأة . فراحت تتنفس بصعوبة شديدة ، وشربت ماء كثيراً ثم ترنحت . وعلى الرغم من كل ذلك نهضت فى الصباح وأشعلت المدفأة بنفسها ، حتى ذهبت لتملأ الماء . وقرب حلول المساء ترنحت مرة أخرى ، فى حين ظل ياكوف طوال النهار يعزف الكمان . وعندما حل الظلام تماماً ، تناول الدفتر الذى يسجل فيه خسائره كل يوم . ومن جراء الملل قام بعمل إجمالى سنوى لهذه الخسائر . وكانت النتيجة أكثر من ألف روبل مما زلزل كيانه لدرجة أنه ألقى بالأوراق على الأرض وأخذ يدوسها بقدميه ، ثم رفعها مرة ثانية ومزقها متنفساً بعمق وتوتر ، وكان وجهه محمراً ومبللاً من أثر العرق . راح يفكر فيما إذا كان قد وضع هذه الألف روبل الضائعة فى البنك ، لتراكمت الأرباح السنوية على الأقل بمقدار أربعين روبلاً . مما يعنى أن الأربعين روبلاً هذه تعتبر أيضاً خسارة . وباختصار فحيثما اتجهت وأينما كنت فليس هناك سوى الخسارة ولا شىء سواها ياكوف ، نادته مارفا بغتة ، إننى أموت ! تطلع إلى زوجته . كان وجهها وردياً من ارتفاع درجة حرارتها ، وصافياً وسعيداً بشكل غير عادى . أما برونزا المعتاد دائماً على رؤية وجه زوجته ممتقعاً شاحباً وتعيساً ، فقد اعتوره الآن الحزن والارتباك . كان الأمر أشبه ما يكون بأنها ماتت بالفعل ، وكانت هى راضية بذلك وسعيدة لأنها أخيراً تخرج إلى الأبد من هذا البيت القروى ، ومن التوابيت ومن ياكوف نفسه . نظرت إلى السقف وتمتمت شفتاها بشىء ما ، وكان التعبير المرسوم على ملامحها ينم عن سعادة عميقة وكأنها بالفعل قد رأت ملاك الموت وتهامست معه . كان النهار قد شقشق ، وبان من النافذة كيف تلألأت شمس الصباح . عندما نظر ياكوف إلى العجوز ، تذكر لسبب ما أنه طوال حياته لم يلاطفها أو يشفق عليها ، ولم يفكر مرة واحدة أن يشترى لها منديلاً أو يحضر لها شيئاً ما حلواً من عرس ، فقط كان يصرخ فيها ، ويكيل لها الشتائم بسبب الخسائر والانتكاسات ، وينقض عليها مهدداً بقبضتيه . وفى الحقيقة فهو لم يضربها أبداً ، وبالرغم من ذلك فقد كان يفزعها ويخيفها ، وكانت هى فى كل مرة تتجمد من الرعب . وأيضاً لم يكن يسمح لها بشرب الشاى لأنه بدون ذلك ستكون المصاريف أقل . أما هى فقد كانت تشرب فقط الماء الساخن . ولقد فهم لماذا يبدو وجهها غريباً وسعيداً ، الشىء الذى أصبح بالنسبة له مرعباً . جاء الصباح بعد طول انتظار ، فاستعار حصان جاره ونقل مارفا إلى المستشفى . كان المرضى هناك قليلين ، وما كان عليه الانتظار إلا قليلاً ، حوالى ثلاث ساعات . ولحسن حظه لم يستقبل المرضى فى هذه المرة الدكتور الذى كان هو نفسه مريضاً ، وإنما التمرجي مكسيم نيكولايتش العجوز الذى كان الجميع يتحدثون عنه فى البلدة بأنه على الرغم من كونه سكيراً وصاحب مشاكل إلا أنه يفهم أكثر من الدكتور . وبعد أن أدخل ياكوف العجوز إلى حجرة الاستقبال ، قال : السلام عليكم . سامحونى فنحن دائماً نزعجكم يا مكسيم نيكولايتش بأمورنا التافهة ، اسمحو لى أن ألفت انتباهكم.. لقد أصاب المرض أهالي رفيقة حياتى كما يقال ، أعذرونى على التعبير . قطب التمرجى حاجبيه الأشيبين ، ومسد فوديه ، وراح يفحص العجوز وقد تقوست على مقعد بدون مسند ، هزيلة ومدببة الأنف بفم مفتوح ، تشبه من جانب وجهها طائراً يهم بشرب الماء . قال التمرجى ببطء بعد أن أخذ نفساً عميقاً : آ.. نعم.. هكذا.. أنفلونزا ، وربما حمى ، فالتيفوس منتشر الآن فى البلدة . ماذا نفعل ؟ لقد عاشت العجوز طويلاً .. الحمد لله.. كم عمرها ؟ سبعون إلا سنة واحدة يا مكسيم نيكولايتش . سأله : ماذا نفعل ؟ عاشت العجوز طويلاً.. وآن الآوان لرحيلها هذا الكلام بالطبع معقول إذا سمحتم يا مكسيم نيكولايتش (قال ياكوف هذا وهو يبتسم من باب التأدب) ونحن شاكرون وممتنون على تفضلكم . ولكن اسمحوا لى أن أذكركم بأن الحشرة أيضاً تريد أن تعيش أطول . كل شيء جائز ! ثم قال التمرجي بنبرة كما لو كان موت العجوز أو حياتها متوقفين عليه : إذن .. هكذا ، يا ولد .. سوف تضع على رأسها كمادة باردة .. وأعطها هذا المسحوق مرتين كل يوم ، ثم مع السلامة . بونجور . لمح ياكوف من تعبيرات وجهه ، أن الحالة سيئة ولن تساعدها أى مساحيق . وكان من الواضح له أن مارفا على وشك الموت ، إذ لم يكن اليوم فغداً . عندئذ دفع التمرجى من مرفقه برفق ، وغمز له بعينيه ، ثم قال بصوت خافت : ماذا لو حجمناها يا مكسيم نيكولايتش . أجابه على الفور : إطلاقاً .. إطلاقاً يا ولد ، خذ عجوزك وأذهب فى أمان الله . مع السلامة . قال ياكوف بتضرع : اعملوا معروفاً .. اسمحوا لى أن أعرف .. لو افترضنا أن بطنها آلمها أو أى شىء داخلى ، فعندئذ نعطيها مساحيق وقطرات . ولكن من الواضح أن عندها نزلة برد وأول شىء في حالة النزلة هو طرد الدم يا مكسيم نيكولايتش . ولكن التمرجى كان قد استدعى المريض التالى . ودخل فعلاً إلى حجرة الاستقبال أب مع ولده ، فى حين قال ياكوف عابساً : في هذه الحالة علقوا لها ولو حتى ألقة ! لتجعلوها تصلى لله إلى الأبد ! فصاح التمرجى في ثورة : علمنى أيضاً ! يا بليد . اغتاظ ياكوف وتضرج كلياً ، لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة ، وتأبط ذراع مارفا وأخرجها من حجرة الاستقبال . ولما جلسا فى العربة ، طالع المستشفى بنظرة قاسية ساخرة قائلاً : أجلسوكم هنا .. ممثلين ! لو كان غنياً لحجمه ، ولكنه يستكثر على الفقير حتى ألقة واحدة .. معاتيه مشوهون عندما وصلا إلى البيت ، ظلت مارفا واقفة لعشر دقائق بعد خولها ويدها على كليتها . وبدا لها أن ياكوف لو رآها مضطجعة فسوف يبدأ حديثه عن الخسائر والانتكاسات ، وسينهال عليها بالشتائم متهماً إياها بالنوم وعدم الرغبة فى العمل . وتطلع ياكوف إليها فى تذمر وملل ، وتذكر أن عيد الناسك يوحنا غداً ، وعيد نيكولاى صاحب المعجزات بعد غد ، وبعد ذلك يوم الأحد ، ثم يوم الاثنين الصعب ، أربعة أيام لا يجوز العمل فيها ، وربما تموت مارفا فى أى منها . إذاً ينبغى أن يصنع لها اليوم تابوتاً . وأخذ أرشينه الحديدى ثم استلقت هي على الفراش بينما بدأ في عمل التابوت . حين أصبح التابوت جاهزاً ، لبس برونزا عويناته وسجل فى دفتره : تابوت مارفا إيفانوفنا 2 روبل و40 كوبيك . وتنفس الصعداء فى حين كانت العجوز مستلقية طوال الوقت وهى مغمضة العينين ، وفى المساء عندما حل الظلام ، نادت عليه العجوز فجأة ، وسألته متفرسة فيه بسعادة : أتتذكر يا ياكوف ؟ أتتذكر .. كيف رزقنا الله قبل خمسين عاماً بطفل أشقر الشعر ؟ آنذاك كنا نجلس طوال الوقت على ضفة النهر نغني .. تحت شجرة الصفاف . وبعد أن ابتسمت بمرارة ، أضافت : ماتت البنت . أجهد ياكوف ذاكرته ، ولكنه لم يتسطع أبداً تذكر الطفل ولا الصفصافة فقال : هذا يخيل لك جاء القس وأجرى مراسيم الاعتراف . بعدها راحت مارفا تتمتم بأشياء غير مفهومة . وفى الصباح ماتت . قامت الجارات العجائز بغسلها وإلباسها ووضعها فى التابوت . ولكى لا يدفع ياكوف مبلغاً إضافياً للشماس تلا هو بنفسه القداس على روحها ، فيما لم يأخذوا منه شيئاً عن حفر القبر لأن حارس المقابر هو الذى كان قد عمد ابنته فى الكنيسة بعد ولادتها . وحمل النعش إلى المقبرة أربعة رجال من قبيل الاحترام والتوقير ، وليس من أجل النقود ، وسار خلفه النسوة العجائز ، والمتسولون ، واثنان من المجاذيب ، وكان ياكوف مسروراً للغاية إذ كان كل شىء محترماً ولائقاً ورخيصاً ، وليس هناك ما يمكن أن يكون فيه إهانة لأحد . وفيما كان يلقى النظرة الأخيرة على جثمان مارفا المسجى فى النعش ، لمس بأصابعه حافة التابوت ، وفكر فى نفسه : صنعة ماهرة ! بعدما عاد من المقبرة ، انتابه حزن شديد واستحوذ عليه الملل ، وشعر بتوعك : كان تنفسه حاراً وثقيلاً ، وقدماه ضعيفتين ، وانتابته رغبة شديدة لشرب الماء . راحت الأفكار بذاكرته من جديد أنه لم يشفق عليها مرة واحدة في حياته كلها ، ولم يلاطفها . وقد عاشا فى بيت واحد اثنين وخمسين عاماً مرت بطيئة ، ولكن حدث على نحو ما أنه طوال هذا الوقت لم يفكر فيها ، ولم يلاحظ وجودها أو يهتم بها كما لو كانت قطة أو كلباً بينما كانت كل يوم تشعل المدفأة تطبخ وتخبز . تذهب لملء المياه ، تقطع الأخشاب ، وترقد إلى جواره فى فراش واحد . وعندما كان يعود متعباً من الأعراس ، كانت فى كل مرة تعلق كمانه على الحائط باحترام وتبجيل ، وترقد فى فراشه ، وكل ذلك بصمت وعلى وجهها أمارات الهيبة والاحترام التقى روتشيلد بياكوف فى الطريق ، فابتسم له محيياً إياه بانحناءة ، وقال : أنا أبحث عنكم يا جدى ! موسى إليتش يسلمون عليكم ويدعونكم لزيارتهم حيالاً . كان ياكوف فى شغل شاغل عن ذلك ، وكانت لديه رغبة شديدة فى البكاء : دعنى ! قال ذلك وتابع سيره ، بينما انزعج روتشيلد واندفع مهرولاً إلى الأمام : كيف يمكن ذلك ؟ موسى إليتش سيغضبون ! إنهم طلبوك حياً ! أدى إلى امتعاض ياكوف أن هذا (اليهودى) كان يلهث ويتلعثم فى كلامه ، ويطرف بعينيه ، ولديه نمش أحمر كثير على نحو ما ، وكان من المقرف لياكوف النظر إلى سترته الخضراء المرقعة بقطع قماش قاتمة ، وإلى قامته الهشة الهزيلة بكاملها . صرخ ياكوف : مالك تتدخل فى شئونى يا آكل الثوم ؟ دعني وشأني ! غضب (اليهودى) وصرخ بدوره : ولكن الزموا حدودكم من فضلكم ، وإلا ستطيرون من فوق السياج ! زعق ياكوف واندفع نحوه مهدداً بقبضتيه : أغرب عن وجهى .. ألا يمكن العيش بعيداً عن الوسخ ! مات روتشيلد فى جلده من الرعب ، فقرفص مذهولاً وأخذ يطوح بيديه فوق رأسه كمن يحميه من اللطمات ، ثم نهض وفر هارباً ، وأثناء جريه كان يقفز ويضرب كفاً بكف بينما ظهره الطويل الهزيل يرتعد بوضوح . وفرح الأولاد لما حدث واندفعوا يركضون وراءه صائحين : يهودى ! يهودى ! . وجرت الكلاب أيضاً خلف الجميع وهى تنبح . انطلق أحد المارة في قهقهة عالية ثم أطلق صفارة فعلا نباح الكلاب وازداد . ويبدو بعد ذلك أن أحد الكلاب قد عض روتشيلد ، فقد سُمعت صرخته المرعوبة من اليأس والفزع راح ياكوف يتمشى فى المراعى ، ثم اقترب من أطراف البلدة وأخذ يسير على غير هدى . فيما كان الأولاد يتصايحون : برونزا قادم ! برونزا قادم ! . وها هو النهر حيث طائر الشنقب يتراكض مسرعاً فوق الرمال ، والبطء يزعق ، والشمس تلفح الوجوه ، وصفحة المياه تتلألأ بلمعان أخاذ يؤذى العين . سار ياكوف فى الطريق الضيق بمحازاة ضفة النهر ، ولمح كيف خرجت سيدة ممتلئة حمراء الوجنتين من حوض الاستحمام . فراح يفكر فيها : ياه يا لك من كلب بحر! . وبعيداً عن حوض الاستحمام كان الأولاد يصطادون السمك بلحم السرطان . ولما لمحوه راحوا يصرخون بحنق : برونزا ! بروزنزا . وها هى الصفصافة العريضة القديمة ذات التجويف الضخم وفوقها أعشاش الغربان ، وفجأة نما فى ذاكرة ياكوف طفل صغير بشعر أشقر كأنه حى يرزق ، بينما كانت الصفصافة التى تحدثت عنها مارفا تقف خضراء ساكنة ، وحزينة . فكم شاخت ، مسكينة ! جلس تحتها وراح يتذكر .. على هذه الضفة ، حيث المرج الذى تغمره الآن مياه الفيضان ، كانت هناك آنئذ غابة من أشجار البتولا ، وعلى الجبال الجرداء كان يتراءى على خط الأفق حرش الصنوبر العتيق الذى كان يلوح وقتذاك بزرقته بينما تسير فى النهر قوارب التنزه . أما الآن فالأمر سيان وعلى الضفة الأخرى تبدو الأرض جرداء إلا من شجرة بتولا واحدة فقط ، شابة وممشوقة كفتاة بكر . وفى النهر لا يوجد إلا البط والوز ، وليس فى الأمر ما يشير إلى أنه فى وقت من الأوقات كانت تسير القوارب للتنزه ، ويبدو أن الوز قد صار قليلاً على عكس ما كان فى الماضى أغلق ياكوف عينيه، فراحت تركض فى مخيلته أسراب ضخمة هائلة متقابلة من الوز الأبيض . لم يكن يدرى كيف حدث أنه خلال الأربعين أو الخمسين سنة الأخيرة من حياته لم يذهب مرة واحدة إلى النهر . ولو كان قد حدث وذهب ، فهو لم يلق بالاً إليه أبداً ؟ إلا أن النهر مخلص وأمين ، وليس شحيحاً ووضيعاً . وكان من الممكن ممارسة صيد السمك فيه ، وبيعه للتجار والموظفين وصاحب البوفيه على المحطة ، وبعد ذلك يمكن وضع النقود فى البنك . وكان من الممكن السباحة فى قارب من ضيعة إلى ضيعة ، والعزف على الكمان ولدفع الناس ، حينها ، من مختلف الطبقات نقوداً من أجل ذلك . وكان من الممكن تجريب قياد قوارب التنزه ، وهذا أفضل من صناعة التوابيت . وفى النهاية كان من الممكن تربية الوز واصطياده ثم بيعه شتاء فى موسكو ، وعندئذ كان من الجائز تحصيل ما يقرب من عشر روبلات فى السنة من بيع الريش وحده . ولكنه غفل عن كل هذا ولم يفعل أى شىء منه فى حينه ، ويالها من خسارة ! ياه ، يا لها من خسارة ! ولو كانت كل هذه الأشياء معاً : صيد السمك والعزف على الكمان وقيادة القوارب واصطياد الوز ، فأى رأسمال كان من الممكن تحقيقه ولكن لم يكن هناك أى شىء من ذلك حتى فى المنام . ومرت الحياة دون جدوى ، بدون أية لذة ، ضاعت هباء وهدراً ، ولم يتبق أى شىء فى المستقبل ، وإذا نظرت للوراء فهناك أيضاً لا يوجد شىء سوى الانتكاسات والخسائر ، وتلك الفظائع التى تقشعر منها الأبدان ، لماذا لا يستطيع الإنسان أن يعيش بحيث لا توجد هذه الخسائر؟ يا ترى من أجل ماذا قطعوا شجرة البتولا وحرش الصنوبر؟ ولماذ كف الكلأ عن العطاء ؟ ومن أجل أى شئ يفعل الناس دائماً كل ما هو غير ضرورى لهم ؟ من أجل ماذا أمضى ياكوف حياته كلها يتشاجر ويتخاصم ، ويزعق ويصرخ ، يهدد بقبضتيه ، ويسئ إلى زوجته . ويا ترى ما الداعى لكى يفزع (اليهودى) ويهينه الآن ؟ لماذا يعرقل الناس ، بشكل عام بعضهم البعض عن الحياة ؟ فما أكثر الخسائر الفادحة ! وما أكثر الانتكاسات البشعة من جراء ذلك ! ولو لم يكن الحقد والضغينة لكان للناس من بعضهم البعض منافع عظيمة . فى المساء وبالليل كان يتراءى له الطفل الصغير ، والصفصافة ، والسمك ، والصيد ، والوز ، ومارفا تشبه من جانب وجهها طائراً يهم بشرب الماء ، ووجه روتشيلد الممتقع المسكين ، وسحنات ما أخرى تميل عليه من جميع الاتجاهات مدمدمة بخسائره . وراح يتقلب من جنب إلى جنب ، ونهض من فراشه ما يقرب من الخمس مرات لكى يعزف على الكمان . فى الصباح رفع جسده من الفراش بصعوبة بالغة ، وذهب إلى المستشفى ، أمر له مكسيم نيكولايتش بنفسه بوضع كمادة باردة على رأسه ، وأعطاه مسحوقاً ، ولكن ياكوف أدرك من ملامحه ومن نبرة صوته أن الحالة سيئة ، ولن تنفع أى مساحيق . وبعد عودته إلى البيت أدرك أن هناك منفعة واحدة من الموت : فليست هناك ضرورة للأكل ، ولا للشرب ، ولا لتسديد الصدقات والإتاوات للكنيسة ، ولا الإساءة للناس ، وبما أن الإنسان سيرقد فى القبر ليس عاماً واحداً ، وإنما مئات وآلاف السنين ، فلو حسبنا المنفعة لبدت عظيمة . ومن حياة الإنسان لا يتأتى أى شىء سوى الخسارة ، أما من موته فتأتى الفائدة ، وهذه الفكرة بالطبع بديهية ورغم ذلك فكل هذا مؤلم ومرير : فلماذا يوجد فى العالم ذلك النظام الغريب ، حيث الحياة التى توهب للإنسان مرة واحدة فقط تمر هكذا دون جدوى ؟ لم يكن مؤسفاً له أن يموت ، ولكن ما إن وقعت عيناه فى البيت على الكمان حتى انقبض قلبه ، وشعر بالأسى والأسف لكونه لن يستطيع أخذ الكمان معه إلى القبر ، وسيبقى الآن يتيماً ، وسوف يحدث معه نفس ما حدث مع غابة البتولا وحرش الصنوبر . كل شىء فى هذا العالم قد ضاع ، وسوف يضيع على الدوام ! خرج ياكوف من البيت وجلس قرب العتبة وهو يضم الكمان إلى صدره بقوة . وبينما راح يفكر فى حياته الخاسرة التي ضاعت هدراً ، عزف على الكمان دون أن يدرى هو ذاته ماذا يعزف . فخرج العزف حزيناً ومؤثراً وانهمرت الدموع على خديه ، وكلما استغرق فى التفكير ، غنى الكمان بشكل أكثر حزناً . أصدر مزلاج الباب الخارجى صريراً ، مرة ومرتين ، وظهر روتشيلد فى الباحة الخارجية أمام البيت . قطع نصف المسافة بشجاعة ، وما إن رأى ياكوف حتى توقف فجأة وانكمش تماماً . وراح من رعبه يصنع بيديه تلك الإشارات التي كما لو كان يود بها أن يبين على أصابعه كم الساعة الآن . قال ياكوف بحنان داعياً إياه : تعال .. لا تخف .. تعال ! تطلع روتشيلد بارتياب . وبخوف أخذ يقترب ، ثم توقف على بعد مترين منه . وقال مقرفصاً : أنتم .. أعملوا معروف لا تضربونى ! لقد أرسلونى موسى إليتش من جديد . قالوا لا تخف ، اذهب ثانية إلى ياكوف وقل له إن الأمر بدونهم غير ممكن إطلاقاً . فيوم الأربعاء عُرس .. نعم .. نعم .. السيد شابوفالوف .. سيزوج ابنته لإنسان جيد . وأضاف (اليهودى) مضيقاً عيناً واحدة : والعُرس سيكون رغيداً .. أو .. أوو ! قال ياكوف متنفساً بصعوبة : لا أستطيع .. لقد مرضت يا أخى . وراح يعزف من جديد والدموع تطفر من عينيه وتتساقط على الكمان . وأخذ روتشيلد ينصت باهتمام مائلاً نحوه بجانبه وعاقداً ذراعيه على صدره ، بينما التعبير المذعور على وجهه يتحول شيئاً فشيئاً إلى شعور حزين مشفق ، وجحظت عيناه كأنما يعانى من إحساس بالإعجاب المضنى . ثم تمتم وااه ه ه ! وسحت دموعه ببطء على خديه وراحت تقطر على سترته الخضراء . ظل ياكوف طوال النهار راقداً مغموماً . وبينما كان القس يحصل منه على الاعتراف فى المساء ، سأله عما إذا كان قد نسى الاعتراف بذنب ما مهم . وفيما راح ينشط ذاكرته الضعيفة ، تذكر من جديد وجه مارفا الناضح بالشقاء ، والصرخة المؤلمة (لليهودى) الذى عضه الكلب ، ثم قال بصوت لا يكاد يسمع : سلموا الكمان لروتشيلد . فأجاب قس : حسناً الآن يتساءل الجميع فى البلدة : من أين لروتشيلد بهذا الكمان الجيد ؟ اشتراه أم سرقه ، أو من الممكن أن يكون قد حصل عليه كرهن ؟ أما هو فقد ترك الناى منذ زمن بعيد ، ويعزف حالياً على الكمان فقط . ومن تحت قوسه تنساب أيضاً تلك الأنغام الحزينة كما كانت تنساب آنذاك من الناى . ولكنه عندما يحاول إعادة ما عزفه ياكوف وقتما كان جالساً على العتبة ، كان يخرج منه شىء يوحى بالحزن والأسى بحيث ينخرط السامعون فى البكاء رغماً عنهم ، فيما كان هو فى نهاية اللحن يجحظ بعينيه متمتماً : واااه ه ه ! وإذ أثارت هذه الأغنية الجديدة الإعجاب فى البلدة ، فقد راح التجار والموظفون يدعون روتشيلد أثناء فترات الراحة ويرغمونه على عزفها عشرات المرات | |
|