د.حسن نعيم إبراهيم المدير العام
عدد المساهمات : 401 تاريخ التسجيل : 28/04/2016 العمر : 68
| موضوع: الوردة السبت مايو 14, 2016 10:00 am | |
| الوردة للكاتب ( البرتو مورافيا ) في شهر أيار كانت توجد في حديقة هذا البيت الصغير في الضاحية بالقرب من أشجار الورد صفوف من الملفوف كان المالك وهو عجوز متقاعد ، يعيش وحيداً مع طاهيته ، يخلع سترته عند الغسق ، ويلبس مئزراً من القماش المخطّط وينكش الأرض بالمعول ، ويشذِّبها ، ويسقيها ساعة ، في انتظار وجبة العشاء . وكانت نساء الحيّ تستطيع رؤيته ، وهن عائدات مساءً من الحدائق العامَّة مع أطفالهن ، من خلال قضبان الشبكة المعدنية ، فيما هو يوجِّه الفوارة على المساكب حاملاً خرطوم الماء بيده . وكان الرجل المتقاعد يقطف ، من حينٍ لآخر ، ملفوفةً ، ويعطيها لطاهيته ، أو يقص بالمقراض بعضاً من تلك الورود ، ويضعها في زهرية في منتصف الطاولة ، في قاعة الطعام . وعندما يجد وردة جميلة جمالاً خاصاً ، كان الرجل المتقاعد يحملها إلى غرفته ، ويضعها في كأس بعد ملئها بالماء ، ويضعها على منضدةٍ قرب سريره . وكانت الوردة تبقى في الماء تنظر إلى رأس سرير العجوز ، حتى تسقط أوراقها ، وتتفتَّح كل بتلاتها مثل الأصابع ، وتكشف عن قلبها الأشقر والوَبِر . لكن المتقاعد لم يكن يرمي الوردة إلا عندما يجد بتلاتها منثورةً على رخام المنضدة ، ولا يوجد في الماء الذي فتر والمليء بالفقاعات سوى الساق المليئة بالأشواك . وفي صباح أحد أيام شهر أيار، انقضَّت سيتونية ( نوع من النحل ) مذهَّبة كبيرة ، تتبعها ابنتها التي لا تزال شابة ، بعد أن حلَّقتا سدىً في حدائق المنطقة ، ولم تجدا أية زهرة وقد شاهدتا ، من بعيد ، مساكب المتقاعد ، انقضتا على ورقة شجرة زعرور جرماني ، عريضة وقاسية ، وهنا قالت الأم لابنتها بعد أن استردَّت أنفاسها : ها قد وصلنا إلى نهاية تجوالنا . فإذا ما انحنيتِ ونظرت إلى الأسفل ، سترين زهرات عدة لا تنتظر سوى مجيئك . فنظراً لصغر سنِّك ، أردت حتى الآن مرافقتك ونصحك في اختيار الورود وعلاقاتك معها ، كنت أخشى أن تتعرض صحتُكِ الجسدية والنفسية للخطر بفعل حداثة الأحاسيس وعنفها إضافة إلى النهم الخاص بشبابك ، لكنني وجدت أنكِ سيتونية عاقلة ، مثل باقي سيتونيات عائلتنا ، وقرَّرت أن الوقت قد حان ، من الآن فصاعداً ، لكي تعتمدي على نفسك وتحلِّقي بأجنحتك نحو الورود التي تفضلين ، فمن الأوفق إذاً أن نفترق نهاراً كاملاً ، وسنعود ونلتقي على ورقة شجرة الزعرور هذه . لكنني سأعطيكِ قبل أن نفترق ، بعض التوصيات تذكّري أن السيتونية خلقت لتلتهم الورود . أو ، على العكس ، خلق الله الورود كي تتغذّى السيتونيات عليها . وبخلاف ذلك ، فلسنا نجد لماذا تصلح هذه الورود . وإذا لم تجدي ورداً ، أمسكي وامتنعي عن الطعام ، فمن الأفضل تحمّل الجوع على مسّ غذاءٍ غير جدير بعِرقنا . ولا تصدِّقي مغالطات دود الأرض والرعاع الآخرين ، الذين يدَّعون أن جميع الورود جيدة . هذا ما يبدو ، في أول الأمر لكن بعد ذلك تنكشف بعض الأمور . وبعد أن ينقضي زمن الشباب ، تكشف السيتونية التي انحطت ، النقاب عن جميع نقائص انحطاطها المخجلة ، وعليها ، بعد أن يتم إبعادها عن قومها أن تقاوم صحبة الخنافس والزنابير والطفيليات ، وقائمة طويلة أخرى من الهَنات . لأن الوردة ، يا صغيرتي ، هي غذاء إلهي ، قبل أن تكون غذاءً مادياً . ومن جمالها ، تنهل السيتونية جمالها هي . إنها أشياء غامضة ، ولن أعرف أن أقول لكِ أكثر من ذلك . وأعرف ببساطة ، أن بعض القوانين ، التي تدعى، بدقةٍ ، إلهية ، لم تُنْتَهك أبداً دون عقاب . لكنكِ لست بحاجة لمثل هذه التحذيرات ، فأنتِ سيتونية سويَّة ونزيهة ، وتحكمين بالفطرة على بعض الأشياء . فإلى اللقاء ، يا صغيرتي ، إلى اللقاء هذا المساء . وبعد أن عبَّرت عن أفكارها على هذا النحو ، طارت الأم الشجاعة ، لأن وردة قرمزية ضخمة ، تفتَّحت أوراقها قبل هنيهة ، كانت الآن تستهويها ، وتخشى أن تسبقها إليها سيتونية أخرى ، أو أن تستميل صراحة ، ابنتها . وبقيت السيتونية الفتيَّة بضع دقائق أخرى على ورقة شجرة الزعرور تتملَّى حديث أمها . ثم طارت بدورها . إن أحداً آخر غير السيتونية ، لا يمكنه أن يتصوَّر ما قيمة الوردة لسيتونية . فتخيَّلوا الزرقة في شهر أيار ، تجتازها موجات شمسية بطيئة ، في حديقة مزهرة . وها هو سطح منتفخ وأبيض يظهر أمام عيني السيتونية المحلِّقة والتي يداعب ظلّها بتضاريسه المهيبة ، ويتوِّج الضوء حوافه المتألِّقة ، سطح واسع وناعم ، مماثلٍ لسطح ثدي مثقل بالحليب . إنها الورقة الخارجية لوردة بيضاء ، لا تزال منغلقة ، لكنها عريضة عند الأطراف ، وتكشف عن أوراق أخرى متراصَّة وملتوية بعضها على بعض . وقد أثار هذا البياض الشاسع والبكر ، الذي اكتسح فجأةً سماء عينيّ السيتونية ، هيجاناً شرهاً ، فاتناً ولاهثاً . وكان أول اندفاع شعرت به ، هي أن تنقضَّ برأسها أولاً ، على هذا اللحم الرائع غير المحمي ، وتنهشه ، وتمزِّقه لتدمغه بندبة استحواذها المسبق عليه . لكن حدسها أوحى لها بطريقة أكثر نعومة لولوج الوردة ، وها هي تتشبَّث بحواف ورقةٍ مفرطة وتتسلل إلى داخل الوردة كان في الإمكان رؤية جسم السيتونية الأخضر الذهبي برهة ، مماثلاً ليد تندس بين أغطية سرائر من الكتَّان الأبيض ، يتخبَّط بيأس ، محاولاً شق طريقٍ لنفسه ، ثم اختفى تقريباً ، واستعادت الوردة ، المنتصبة على ساقها ، مظهرها المألوف ، شبيهةً بفتاة شابة ، تحتفظ تحت مظهر البراءة العذرية ، بالسر الحارق لأول عناقٍ غراميّ لها . لكن ، فلنتبع السيتونية في قرارة الوردة . كل شيء حولها ظلام ، لكنه ظلام نديّ ، ذكيّ الرائحة وناعم ، ظلام يحيا ويخفق في ثناياها الخفيَّة ، مثل ثنايا فمٍ مُشْتَهى ، والسيتونية ذاهلة بعطر الوردة ، مبهورة ببياضها الذي تسبره بين البتلات التي تنطبق ثانيةً ، وقد اهتاجت بليونة هذا اللحم . وهي ليست سوى رغبة ، كما أن الوردة ليست سوى غرام ، وبحبٍّ جنوني فطري ، بدأت تلتهم الأوراق . ليس الجوع ، كما قد يُظن خطأ ، ما يدفعها إلى تمزيق البتلات وخرقها ، لكنها الرغبة المجنونة في الوصول إلى قلب الوردة بأسرع وقتٍ ممكن . إنها تعصر بين براثنها ، وتمزِّق ، وتقطِّع ، تخزق ، وتجزِّئ . وفي الخارج ، لا يشك أحد بأمر هذا الولوج المجنون ، وتحتفظ الوردة المنتصبة والبِكْر تحت ضوء الشمس ، بدون خجلٍ ، بسرِّها . لقد كسرت السيتونية ، في أثناء ذلك الوقت ، بهيجانٍ متزايد ، غلاف الوردة الأول ، والثاني والثالث . وبمقدار ما كانت تلج ، كانت الأوراق تصبح أكثر نعومة ، وأزكى رائحة ، وأكثر بياضاً . وشعرت السيتونية بأنه سيغشى عليها من المباهج ، وأن قواها ستخور تقريباً ، وتضرب ضربةً أخيرة ببراثنها ، وتفتح في متراس البتلات القاتم ، فتحة نهائية ، وتُدْخِل رأسها أخيراً في الفرو الأبيض والمُسْكِر لغبار الطلع . وستبقى هنا ، دائخة ، ضائعة ، منهكة وكأنها ميتة ، في هذه الظلمات الندية والمعطّرة ، لن تتحرَّك ، وستبقى جامدة ، ساعات ، وأياماً كاملة أما ، في الخارج ، فلم يُفْشِ أدنى ارتعاش للأوراق ، تحت براءة أشعة شهر أيار ، سرَّ الوردة المثير . هذا هو قدَر السيتونية . لقد كانت هذه الشابَّة التي أعطتها أمها نصائحها التي تظنُّها غير ضرورية ، تشعر في الواقع بأنها مختلفة ، اختلافاً لا يُحدّ نهائياً ، عن رفيقاتها من جنسها . شيء لا يصدَّق ، لكنه صحيح : كانت الورود لا تعني لها شيئاً . وكانت سيتونيتنا تشعر ، شعوراً عارماً ، بأنها مدفوعة لتغيير هذه المشاعر الوراثية والحارَّة ، التي تشعر بها السيتونيات نحو أجمل الورود المعطَّرة ، منذ الأزمنة السحيقة ، إلى اختيارات باردة وخشنة . كانت السيتونية قد اكتشفت باكراً جداً ميولها ، ورأت ، في مبادرةٍ أولية ، أن تكاشف أمها بالأمر . لكنها فيما بعد ، ومثلما يحدث دائماً في هذه الحالة ، شعرت بالذعر من صعوبة اعترافٍ كهذا ، وفي الوقت ذاته ومع شكِّها بالعلاج الأمومي ، عدلت عن ذلك . وحاولت جاهدة ولثقتها بقدراتها الشخصية ، إصلاح نفسها بنفسها . وهكذا حاولت متنقِّلة من وردةٍ إلى وردة ، تحت عيني أمها العطوف ، الحصول مع الرضى على هذه الرغبات التي كانت فطرتها ترفض إعطاءها لها . جهد ضائع . فما أن كانت تدخل بين الأوراق حتى تتوقَّف سريعاً ، وكأنها مشلولة ، وليس فقط غير مبالية ، بل صراحةً ، عرضة لنفورٍ لا يقاوم وكان هذا اللَّحم الناعم يبدو لها مغموساً بشهوةٍ لزجة وعسليَّة ، والروائح كعفونات مختلطة ، والبياض كظلٍّ نجسٍ وفاحش . وكانت تحلم ، وهي لا تزال جامدة ومشمئزَّة ، بالملفوف الأخضر الطازج والشهي . فالملفوف لا يتزيَّن بألوان البطاقات البريدية المزيَّفة ، ولا يتعطَّر بعطر البتشولي المقزِّز والمريب ، ولا يعرض بمحاباة هذه العذوبة المغثية . وقلب الملفوف مثير للشهية، يلتوي وهو يتعرَّج بين التِلَع ورائحته رائحة العشب والندى الصحيِّ ، ولونه أخضر زاهٍ . كانت السيتونية تلعن في قلبها ، الطبيعة التي جعلتها مختلفة عن ممثِّلات جنسها الأخريات ، أو بالأحرى ما جعل جميع السيتونيات الأخريات مختلفات عنها . أخيراً ، وعندما وجدت أن إرادتها لا تساعدها على النجاح في شيء ، وأنها حاولت جاهدة إرغام نفسها كثيراً ولم تستطع حب الورود ، قررت ألا تقاوم ميولها أبداً ، بل أن تستسلم لها صراحةً . كانت تفكر أحياناً ، محاولة تبرئة نفسها بطريقة مغالطة ، وإنامة ضميرها تقول : وفضلاً عن ذلك ، ما هو الملفوف ؟ إنه وردة خضراء . إذاً ، لماذا لا أحبُّ الملفوف ؟ . بعد كل ما قيل، من السَّهل تصوُّر ملاحظات السيتونية الشابة ، حول ورقة شجرة الزعرور ، حيث تركتها الأم لتطير نحو وردة شهواتها . ولكي نسلّط الضوء على مأساة هذه النّفْس ، سنروي بعضاً منها : شيء حزين أن نُخْلق مختلفين عن الجمهور . لا نعرف لماذا ، ولا نعرف كيف يصبح الفرق ، فجأة ، دونيةً ، خطيئةً ، وجريمة . ومع ذلك ، لا يوجد بين الجمهور وبيني سوى علاقة عدد . مصادفة كون السيتونيات ، في غالبيتهن العظمى يحببن الورود ، من الجيد إذاً ، أن نحب الورود . نهج جميل في التفكير . أنا ، مثلاً ، أحب الملفوف ولا شيء آخر سوى الملفوف . إنني مكونَّة على هذا النحو ، ولا أستطيع أن أتغيّر . ومن غير المجدي ، من جهةٍ أخرى ، نقل أفكار السيتونية التعيسة كاملةً . يكفي القول ، كي نبتّ في أمر تفكيرها الطويل إنها طارت نحو شجرة الزعرور ، وبعد عدة جولات استكشافية ، ذهبت لتحط على ورقة أكبر ملفوفة موجودة ، لونها أخضر مزرق ، منتفخة ، ومليئة بالضلوع والتجاعيد . وكي لا تلفت الأنظار إليها ، تظاهرت بأنها حطّت على الخضرة لترتاح . وبالتالي ، اتخذت وضعاً متراخياً ، فجلست على جنبها وأسندت رأسها على قائمتها . وكان نعم الرأي ، لأن سيتونيتين طائشتين مفعمتين بالحيوية ، ظهرتا بعد برهة ، وأخذتا ترفرفان حولها . ثم صاحتا ثملتين : ألن تأتي ؟ إننا ذاهبتان إلى الورود . ولحسن الحظ أنهما لم تهتَّما في عجلتهما بمراقبة رد السيتونية على دعوتهما وبعد أن ألقت السيتونية نظرة خاطفة حولها ، ولحظت عدم ظهور أي سيتونية في الأفق ، تظاهرت بأنها تعثَّرت بضلعٍ من أضلع ورقة الملفوف ، وتركت نفسها تتدحرج باتجاه قلب الخضرة . وخلال ثانية واحدة ، وبعد أن أحدثت فتحةً بضرباتٍ تشنُّجية في الورقة السمينة والغشائية ، اختفت داخل قلبها المجعَّد . وماذا نقول أكثر من ذلك ؟ هل علينا أن نتوقَّف عند وصف الهيجان الذي فتحت به السيتونية طريقاً لها داخل الملفوفة ، وقد أصبحت حرة أخيراً في إطلاق غرائزها المكبوتة ، وقد انتشت بالنتانة النباتية التي كانت تفوح من قلب النبتة الشحيم ، وكيف وصلت إلى قلب الأوراق البارد واللَّزج ؟ وكيف بقيت طوال النهار في الداخل ، خائرة القوى ، وأمضت فيه نهار سكرٍ وعربدةٍ حقيقيين ؟ وعند المساء ، انسحبت السيتونية ، على مضض ، بالممر الذي حفرته في قلب الملفوفة ، كما هو مقرَّر ، وطارت نحو شجرة الزعرور ، إلى المكان الذي حدَّدته أمها لموعدهما . فوجدتها منحنية ، تنظر حولها ، قلقة لأنها لم ترها تظهر . سألت الأم الشجاعة ابنتها سريعاً كيف سارت الأمور خلال النهار ؟ فردت السيتونية صراحة ، بأن كل شيء تمَّ على أحسن ما يرام : فالورود متوفِّرة بكثرة . وتفحَّصت الأم وجه ابنتها , لكنها اطمأنّت تماماً لملاحظتها بأنه صافٍ وبريء مثلما هو دائماً . قالت لها عندئذٍ : تصوَّري بأن فضيحة قد تفجّرت لقد شوهدت سيتونية تدخل تحت أوراق ، أكاد لا أجرؤ على أن أكرِّر الكلمة ، ملفوفة . وزايدت الابنة قائلة : يا للهول لكن سرعة دقات قلبها بدأت تشتد ، وأضافت : ومن كانت ؟ أجابت الأم : لم يستطيعوا تبيُّنها . شاهدوها تدخل تحت الأوراق ، وهي تخبِّئ رأسها فيها لكن ، تبعاً لأغمدتها يُظَنُّ أنها فتيّة . شقيّة هي الأم التي جعلها حظها العاثر تلد بنتاً كتلك . وأعترف لكِ بأنني لو كنت أعلم أن لابنتي ميولاً مماثلة ، لمتُّ من الألم . وردّت البنت قائلة : إنكِ على حق . إنها أشياء يرفض العقل حتى تصوّرها . فقالت الأم : هيا بنا . وطارت السيتونيتان في فتور الغسق ، نحو حدائق أخرى ، وهما تثرثران
| |
|